في حين أن العديد من البلدان الغربية تكيفت بسرعة، بل وحولت التحول الرقمي إلى فرصة للنمو، فإن الصحف في العديد من البلدان النامية، بما في ذلك فيتنام، لا تزال "تجلس مكتوفة الأيدي" بين "دعم الميزانية" وخطر التخلف عن الركب.

التحول الناجح للصحافة الغربية
بعد أن تسببت الأزمة المالية في عام 2008 في انخفاض حاد في الإعلان، اضطرت العديد من الصحف الغربية مثل نيويورك تايمز، والغارديان، أو فاينانشال تايمز إلى البحث عن نماذج أعمال جديدة للبقاء والنمو.
اليوم، حوّلت صحيفة نيويورك تايمز تركيزها من الإعلانات إلى القراء، حيث تجاوز عدد مشتركيها المدفوعين 10 ملايين (بحسب أرقام عام 2024)، وهو ما يمثل أكثر من 67% من إجمالي إيراداتها. أما صحيفة لوموند (فرنسا)، فقد تجاوز عدد مشتركيها الإلكترونيين 580 ألف مشترك، أي أكثر من الضعف في غضون خمس سنوات فقط، بفضل استراتيجية تركز على المحتوى الأصلي، والتقارير الاستقصائية، وتجربة المستخدم.
من أهم عوامل النجاح استخدام البيانات وتخصيص التجربة من خلال تطبيق تكنولوجيا البيانات والذكاء الاصطناعي لتحليل سلوك القراء. وقد استثمرت فاينانشال تايمز في نظام "لانترن"، وهو منصة تحليل سلوك المستخدمين آنيًا، مما يساعدها على تحديد أفضل وقت لتوصية باقات الاشتراك. وبين عامي 2017 و2022، بلغ معدل الاحتفاظ بالاشتراكات في فاينانشال تايمز 78%، وهو رقمٌ يُمثل حلمًا للصحافة الرقمية.
وفي الوقت نفسه، تستخدم صحيفة الجارديان التكنولوجيا لاقتراح محتوى يعتمد على سلوك القارئ للاحتفاظ بالمستخدمين، مع الحفاظ على نموذج "المساهمة المجانية - التطوعية" مع أكثر من 1.5 مليون متبرع منتظم.
تُركز الصحف الغربية على تطوير منتجات متعددة المنصات لتوسيع نطاق تأثيرها. لا يقتصر هذا النشاط على رقمنة عملية النشر فحسب، بل يُنوّع أيضًا صيغها: البودكاست، والنشرات الإخبارية عبر البريد الإلكتروني، ومقاطع فيديو يوتيوب، وتطبيقات الجوال المتخصصة، بل ويستخدم حتى نماذج تفاعلية بتقنية الواقع المعزز والواقع الافتراضي في سرد القصص الصحفية (صحيفة واشنطن بوست مثال نموذجي). ووفقًا لاستطلاع أجراه معهد رويترز عام ٢٠٢٣، يتابع ٤٢٪ من القراء في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأخبار عبر البودكاست مرة واحدة على الأقل أسبوعيًا، ويُفضل أكثر من ٣٥٪ من القراء الشباب (١٨-٣٥ عامًا) مقاطع الفيديو القصيرة أو النشرات الإخبارية عبر البريد الإلكتروني على الصحف المكتوبة.
الاستقلالية التحريرية والشفافية المالية جانبان مهمان. فعلى عكس الصحف العامة في العديد من الدول، تعمل غرف الأخبار الأوروبية والأمريكية الكبرى كمؤسسات إعلامية مستقلة. فهي تتسم بالشفافية المالية وتتنافس بشراسة على الجودة والسرعة. صحف مثل دي تسايت (ألمانيا)، وإل باييس (إسبانيا)، وأفتنبوستن (النرويج) ليست مؤسسات إعلامية فحسب، بل تعمل أيضًا كمحللين للسياسات، وثقل موازن للحكومة ، وأصوات المجتمع والجماهير.
الصحافة الفيتنامية والعقبات في الثورة الرقمية
في السنوات الأخيرة، أحرزت الصحافة الفيتنامية تقدمًا في تطبيق التكنولوجيا الرقمية ، إلا أن التحول الرقمي في قطاع الصحافة لا يزال يواجه العديد من التحديات. تبذل غرف الأخبار الكبرى، مثل توي تري، وثانه نين، وفي إن إكسبريس، جهودًا للتحول الرقمي، إلا أن سرعة وكفاءة هذه الجهود متفاوتتان. ووفقًا لدراسة أجراها معهد دراسات الصحافة والاتصال (2022)، أفاد 12% فقط من الصحفيين في فيتنام بأن غرف أخبارهم لديها "استراتيجية واضحة للتحول الرقمي".
يبلغ عدد مستخدمي الإنترنت في فيتنام حاليًا أكثر من 77 مليون مستخدم، أي ما يعادل 79% من إجمالي عدد السكان، وحوالي 68 مليون مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي. في الوقت نفسه، لا تزال معظم وكالات الأنباء تفتقر إلى استراتيجية واضحة لرقمنة المحتوى. ووفقًا لبيانات وزارة المعلومات والاتصالات (التي تُعرف الآن بوزارة العلوم والتكنولوجيا)، بحلول عام 2023، لن تُنشئ سوى 35% من وكالات الأنباء نظامًا لتحليل بيانات القراء؛ بينما يمتلك أقل من 20% منها استراتيجية لإنتاج محتوى متخصص لمنصات الهواتف المحمولة، مما يُشير إلى أن البنية التحتية الرقمية لا تزال بطيئة.
أكثر من 90% من وكالات الأنباء في فيتنام حاليًا وحدات خدمة عامة، حيث يأتي معظم ميزانيتها من الدعم الحكومي. وهذا يُفضي إلى ثلاث عواقب رئيسية: أولًا، هناك نقص في الحافز للابتكار نظرًا لعدم اضطرارها للمنافسة المالية، إذ لم تستثمر العديد من وكالات الأنباء في الفرق الرقمية أو البيانات أو ابتكار المنتجات. ثانيًا، هناك قيود على استقلالية التحرير: إذ تعتمد الإيرادات على الميزانية، مما يجعل إنتاج المحتوى الاستقصائي والنقدي لا يزال حذرًا. ثالثًا، يتمثل القيد في الهدر وتداخل المحتوى: إذ تستغل عشرات الصحف الحدث نفسه، مما يزيد التكاليف الاجتماعية ويُقلل من قيمة استقلالية الصحافة.
يُعدّ صعود وسائل التواصل الاجتماعي اتجاهًا يُقوّض المكانة المركزية للصحافة السائدة. بفضل طابعها الشخصي وانتشارها السريع، تُعدّ تيك توك وفيسبوك الآن المصدرين الرئيسيين للأخبار للفيتناميين الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا. تُظهر إحصاءات جوجل لعام 2023 أن أكثر من 68% من قراءة الصحف الإلكترونية في فيتنام تأتي من منصات وسيطة (جوجل وفيسبوك)، بدلًا من الوصول المباشر إلى صفحات الصحيفة. وهذا يُؤدي إلى خسارة الصحف لقرائها وبياناتها، وهما أهمّ أصول الاقتصاد الرقمي.
اقتراح استراتيجية التحول الرقمي للصحافة الفيتنامية
ينبغي على فيتنام أن تكون أكثر حزمًا في خفض دعم الميزانية تدريجيًا لوسائل الإعلام غير الأساسية. بدلًا من ذلك، ينبغي عليها دعم وسائل الإعلام ذات المصلحة العامة فقط (الأخبار الأساسية، والقانون، والمعلومات المحلية) من خلال آلية رقابة مستقلة.
في فيتنام، لا تزال الصحف تعتمد بشكل رئيسي على عائدات الإعلانات، وخاصةً الإعلانات الإلكترونية. تهيمن منصات مثل فيسبوك وجوجل على سوق الإعلانات الرقمية، مما يُصعّب على غرف الأخبار الحفاظ على استقرارها المالي من الإعلانات. على الرغم من أن بعض الصحف الإلكترونية قد جرّبت نموذج جدار الحماية، إلا أن هذا النموذج لم يحظَ بشعبية كبيرة نظرًا لاستمرار إقبال القراء الفيتناميين على القراءة الحرة. ينبغي تشجيع غرف الأخبار على بناء نماذج أعمال مستقلة، بما في ذلك: باقات الاشتراك المدفوعة (جدار الحماية المرن)؛ والمنتجات التجارية (الكتب، والندوات، والتدريب)؛ والتمويل الجماعي؛ والتعاون مع الشركات في مجال المحتوى (المحتوى الأصلي).
تحتاج الحكومة إلى سياسات ائتمانية تفضيلية وصناديق لدعم التحول الرقمي للصحافة. ينبغي على وكالات الأنباء بناء أنظمة استباقية: تحليل بيانات المستخدم في الوقت الفعلي؛ نظام تخصيص المحتوى (توصيات قائمة على الذكاء الاصطناعي)؛ منصة إنتاج وإدارة أخبار متعددة المنصات (غرفة أخبار متكاملة)؛ تطبيق لمكافحة الأخبار الزائفة، والتحقق من المصادر.
من الضروري بناء إطار قانوني يُميّز بوضوح بين عناصر مثل صحافة المصلحة العامة (المدعومة)، والصحافة المهنية (التي تعمل كمؤسسات معلومات)، والمحتوى الرقمي الشخصي (المدونون، وخبراء الرأي العام). في الوقت نفسه، من الضروري أيضًا تعزيز استقلالية التحرير، والحد من التدخل الإداري، والحد من تأثير المؤسسات الاقتصادية، وجعل الإنفاق العام في قطاع الصحافة شفافًا، لتجنب حالة "الاستثمار المنتشر - انخفاض الكفاءة".
التحول الرقمي ليس مجرد توجه، بل هو شرط أساسي لبقاء الصحافة في القرن الحادي والعشرين. وبما أن الصحافة الفيتنامية تؤدي دورًا لا غنى عنه في بناء الثقة، وجعل المجتمع شفافًا، وتعزيز النمو الاقتصادي، فإنها بحاجة إلى إصلاح جذري وعميق. إذا لم نتحرك اليوم، فإن الصحافة معرضة لخطر التهميش في لعبة المعلومات، حيث تُشكل البيانات والتكنولوجيا وثقة القارئ العوامل الرئيسية الثلاثة التي تُحدد وجودها. عندما تكون الصحافة قوية، يكون الاقتصاد قويًا. وعندما تكون الصحافة بطيئة، فإن المجتمع بأسره سيدفع الثمن.
ولكي تتمكن الصحافة الفيتنامية من البقاء والتطور في العصر الرقمي، فإنها تحتاج إلى تحويل تفكيرها وتكنولوجيتها ومحتواها وتنظيمها بشكل شامل - ليس فقط للتكيف، ولكن أيضًا لقيادة وتوجيه الرأي العام وحماية دور الصحافة السائدة.
المصدر: https://hanoimoi.vn/bao-chi-viet-nam-co-hoi-va-thach-thuc-trong-ky-nguyen-so-706145.html
تعليق (0)