لقد جذبت زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز إلى أوزبكستان وكازاخستان، والتي كانت الأولى منذ عقود، اهتمام الرأي العام لأنها شملت منطقة استراتيجية: آسيا الوسطى.
تتكون آسيا الوسطى من 5 دول (كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان) بمساحة حوالي 5.6 مليون كيلومتر مربع، وهي منطقة غنية بالموارد الطبيعية: النفط والغاز الطبيعي والفحم (الموجود في معظم البلدان)، والمعادن النادرة مثل الليثيوم واليورانيوم بأكبر احتياطيات في العالم، وإمكانات وفيرة للطاقة الكهرومائية، والعديد من مناجم الحديد والنحاس والذهب والملح... ويبلغ عدد سكانها ما يقرب من 80 مليون نسمة، تبرز آسيا الوسطى كمنطقة ذات أهمية جيوسياسية مهمة، ذات خصائص تاريخية غنية، وتراث ثقافي متنوع، وموقع استراتيجي عند تقاطع آسيا وأوروبا.
آسيا الوسطى أرض تتمتع بمزايا عديدة في استراتيجيات الدول الكبرى. (المصدر: TCA) |
الفرصة في الصراع
كان للصراع في أوكرانيا تأثير سلبي على أوروبا، إذ خلّف آثارًا مدمرة على أوكرانيا، وتسبب في ركود الاقتصاد الروسي. ومع ذلك، استفادت منطقة آسيا الوسطى استفادة كبيرة من الصراع. فقد نجحت خمس دول في المنطقة ليس فقط في تجنب العواقب الوخيمة للحرب، بل وعززت أيضًا التجارة والاستثمار، مما عزز التنمية الاقتصادية. ونشرت المؤسسات المالية العالمية تقييمات إيجابية للنمو الاقتصادي لمنطقة آسيا الوسطى في عام 2023. ووفقًا لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي لدول المنطقة بنسبة 4.6% في عام 2023، ومن المتوقع أن يرتفع بنسبة 4.2% في عام 2024.
منذ فرض الغرب عقوبات على روسيا بسبب شنها حملة عسكرية في أوكرانيا، حافظت دول آسيا الوسطى على سياسة خارجية مرنة ومتعددة الاتجاهات، وأدت بمهارة "عملية توازن متعددة الأبعاد" في العلاقات مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا.
رغم ضغوط روسيا والغرب، واصلت كازاخستان ودول آسيا الوسطى الأخرى الحفاظ على علاقاتها التجارية مع روسيا، مع تطوير علاقاتها مع شركائها الغربيين، مستغلةً الفرصة سريعًا لسد الثغرات في سلسلة التوريد. وأصبحت قيرغيزستان وأوزبكستان وكازاخستان وسطاء لروسيا، حيث أُعيد توجيه البضائع المحظورة من الاستيراد المباشر من أوروبا عبر آسيا الوسطى. وقد ساعد هذا هذه الدول على زيادة تجارتها بشكل كبير مع روسيا والصين وأوروبا. وفي عام 2022، بلغ حجم التجارة الثنائية بين كازاخستان ودول البريكس، وخاصة روسيا والصين، 45 مليار دولار.
شهدت دولة قيرغيزستان الصغيرة، على وجه الخصوص، زيادة ملحوظة في إيرادات الميزانية، حيث تضاعفت بحلول عام ٢٠٢٣. ويُعاد استثمار الأموال المُحصّلة من التجارة والاستثمار الأجنبي في مشاريع التنمية، لا سيما في قطاع الطاقة الكهرومائية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك محطة كامبراتا-١ للطاقة الكهرومائية، التي يجري بناؤها لزيادة الطاقة الكهربائية في البلاد إلى النصف. ولن يُسهم هذا في دعم اقتصاد قيرغيزستان المزدهر فحسب، بل سيُتيح أيضًا فرصًا لتصدير الكهرباء إلى الدول المجاورة التي تعاني من نقص الطاقة.
إلى جانب قيرغيزستان، كانت كازاخستان أيضًا من أبرز المستفيدين من النزاع. فقد شهدت صادرات الاتحاد الأوروبي إلى كازاخستان ارتفاعًا ملحوظًا، لا سيما في سلع مثل الآلات والإلكترونيات. كما شهد قطاع التكنولوجيا في كازاخستان نموًا ملحوظًا، حيث زادت صادرات التكنولوجيا إلى روسيا بنحو سبعة أضعاف بين عامي 2021 و2023. ويعكس هذا تحولًا في سلاسل التوريد الدولية، وقد مكّن دول آسيا الوسطى من تعزيز دورها في الاقتصاد العالمي.
الهندسة الميكانيكية من القطاعات الرئيسية في اقتصاد كازاخستان. (المصدر: مكتب رئيس وزراء كازاخستان) |
تعديل السياسة
وفي السياق الجيوسياسي المعقد الحالي، أجرت الولايات المتحدة تغييرات أكثر واقعية في سياستها تجاه آسيا الوسطى، من اعتبار المنطقة مجرد مورد للوقود وطرق النقل الاستراتيجية إلى سياسة توسيع الشراكات الاستراتيجية مع كازاخستان وأوزبكستان، وخاصة في مجالات تطوير الطاقة النظيفة، والاستجابة لتغير المناخ، والتعدين، واعتبار منطقة آسيا الوسطى شريكا في البنية التحتية والاستثمار العالمي.
تبذل دول الاتحاد الأوروبي جهودًا حثيثة لتعزيز علاقاتها مع دول آسيا الوسطى، بهدف إيجاد مصادر بديلة للنفط والغاز الروسيين، وتلبية احتياجات القارة العجوز من الطاقة، بما في ذلك الطاقة النووية (تمتلك كازاخستان 40% من احتياطيات اليورانيوم العالمية، وستُنتج 22 مليون طن بحلول عام 2023)، وفي الوقت نفسه، تسعى إلى التأثير على قادة المنطقة لتغيير آرائهم تجاه روسيا. ومع ذلك، نظرًا للاعتماد المفرط على الولايات المتحدة، فإن هذه الجهود لا تزال مجرد إجراء شكلي.
أشارت مجلة "الدبلوماسية الحديثة" مؤخرًا إلى أن احتياطيات النفط والغاز الوفيرة في آسيا الوسطى تمنح الدول الغربية خيارًا مهمًا للمساعدة في ضمان أمن الطاقة. كما توفر هذه المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية والاحتياطيات المعدنية فرصًا جذابة للاقتصادات الغربية لتوسيع سلاسل التوريد الخاصة بها.
لطالما كانت شركات كازاخستان، أكبر دولة في آسيا الوسطى، مصدرًا رئيسيًا للتيتانيوم والبريليوم والتنتالوم والنيوبيوم وغيرها لاقتصادات دول الاتحاد الأوروبي. وفي نهاية عام ٢٠٢٣، أثمرت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى كازاخستان عن اتفاقيات مهمة ساعدت باريس على شراء معادن ومعادن مهمة للإنتاج الصناعي. وارتفع حجم التبادل التجاري بين كازاخستان وألمانيا في عام ٢٠٢٣ بنسبة ٤١٪ ليصل إلى ٣.٩ مليار دولار أمريكي، وتجاوز ٢.٣ مليار دولار أمريكي في الأشهر السبعة الأولى من عام ٢٠٢٤. ومنذ عام ٢٠٠٥، استثمرت ألمانيا ما يقرب من ٦.٧ مليار دولار أمريكي في كازاخستان.
تعزيز التعاون الإقليمي
لم يقتصر الصراع في أوكرانيا على تعزيز التجارة فحسب، بل حفّز أيضًا التعاون بين دول آسيا الوسطى. في السابق، كانت هذه الدول تعاني من صراعات حول المصالح الاقتصادية والسياسية، أما الآن، فقد أصبح لديها شعور بالتضامن للاستفادة من فرص التنمية، وتم بناء وتنفيذ سلسلة من المشاريع بهدف تعزيز الروابط الاقتصادية بين دول المنطقة.
من خلال تعزيز العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية الوثيقة مع جيرانها، تسعى آسيا الوسطى إلى الاستفادة من إمكاناتها كمركز للتجارة والاستثمار والتبادل الثقافي، وتعزيز النمو والازدهار المستدامين، ومعالجة القضايا المشتركة مثل نقص الطاقة وإدارة الحدود. وتشهد التجارة والاستثمار والسياحة بين دول المنطقة نموًا متسارعًا، مما يعزز التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
علاوةً على ذلك، يُغذّي استثمار الشركاء الدوليين تطوير البنية التحتية للنقل والخدمات اللوجستية في المنطقة. ولا تقتصر هذه المشاريع الاستثمارية على تحسين ظروف نقل البضائع فحسب، بل تُسهّل أيضًا تطوير صناعات أخرى، من الزراعة إلى التكنولوجيا. وعلى وجه الخصوص، منذ اندلاع الصراع الروسي الأوكراني، برز ممر النقل الدولي عبر بحر قزوين (TITR)، وهو شبكة نقل تمتد عبر آسيا الوسطى وبحر قزوين والقوقاز، كبديل لطرق النقل التي تسيطر عليها روسيا.
برز ممر النقل الدولي عبر بحر قزوين (TITR) كبديل لطرق النقل التي تسيطر عليها روسيا. (المصدر: دريمزتايم) |
على مدار الثلاثين عامًا الماضية، شهد هذا الممر زيادة في حركة المرور، وخاصةً بعد فبراير 2022. ووفقًا للأمين العام لرابطة طريق البحر الشمالي الروسي (TITR)، غيدار عبد الكريموف، تشارك حاليًا 25 شركة شحن من 11 دولة في TITR. وفي الأشهر العشرة الأولى من عام 2023 وحده، تم نقل أكثر من 2,256 مليون طن من البضائع عبر هذا الممر. وفي أوائل عام 2024، أعلنت المؤسسات المالية الأوروبية والدولية عن التزامها بمبلغ 10.8 مليار دولار أمريكي لتطوير TITR، بهدف تقليل الاعتماد على طريق البحر الشمالي الروسي (NSR).
مع تصاعد الاضطرابات في البحر الأحمر بسبب هجمات الحوثيين والعقوبات الغربية على موسكو، أصبحت طرق الشحن التقليدية أقل أمانًا. كما أن توجيه الشحنات حول قناة السويس يزيد التكاليف وأوقات العبور بشكل كبير. في هذا السياق، أصبح نظام النقل الدولي عبر قناة السويس حلاً رائدًا، يُفيد سلسلة التوريد العالمية، ويُساعد على استمرار التجارة بين آسيا وأوروبا.
تجدر الإشارة إلى أن دول آسيا الوسطى قد انضمت إلى ما يُعرف بـ "مجموعة الدول الخمس الكبرى"، مُشكّلةً بذلك كتلةً موحدةً في المفاوضات الدولية. هذا التعاون لا يُعزز مكانة المنطقة على الساحة الدولية فحسب، بل يُمكّنها أيضًا من الاستفادة بشكل أفضل من الفرص المتاحة من الشرق والغرب. في سبتمبر الماضي، استضاف الرئيس الأمريكي جو بايدن قادة آسيا الوسطى في قمة مجموعة الدول الخمس زائد واحد (C5+1) (وهي آلية تعاون بين الولايات المتحدة وخمس دول في آسيا الوسطى) في نيويورك، وهو حدث تاريخي يُمثل أول حضور لرئيس أمريكي في اجتماع مجموعة الدول الخمس زائد واحد. ناقشت واشنطن وشركاؤها مجموعة من المواضيع، بما في ذلك الأمن الإقليمي والتعاون الاقتصادي والتنمية المستدامة، مؤكدين بذلك على الاهتمام الأمريكي المتزايد بالمنطقة ومساهمتها فيها. في أواخر عام ٢٠٢٣، أسفرت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى كازاخستان عن صفقات مهمة مكّنت باريس من تأمين معادن ومعادن مهمة للإنتاج الصناعي. وقد أظهرت زيارات قادة دوليين، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الصيني شي جين بينغ، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز، الأهمية المتزايدة لآسيا الوسطى في المشهد الجيوسياسي العالمي. |
ألمانيا "محصول وفير"؟
أصبح المستشار أولاف شولتز أول مستشار ألماني يزور آسيا الوسطى منذ عقود. ووفقًا للخبراء، يسعى السيد شولتز خلال هذه الزيارة إلى توثيق العلاقات مع دول آسيا الوسطى، مع اهتمام خاص بقطاعي الطاقة والاقتصاد، واستغلال موارد النفط والغاز الوفيرة في آسيا الوسطى لتعويض الإمدادات من روسيا.
في عام ٢٠٢٣، صدّرت كازاخستان ٨.٥ مليون طن من النفط إلى ألمانيا، ما يُمثل ١١.٧٪ من إجمالي واردات ألمانيا من النفط، بزيادة عن حوالي ٦.٥ مليون طن قبل النزاع الروسي الأوكراني. وقد جعلت هذه الزيادة كازاخستان ثالث أكبر مورد لألمانيا بعد النرويج والولايات المتحدة، وفقًا لبيانات المكتب الإحصائي الفيدرالي الألماني. وفي الوقت نفسه، زادت الاستثمارات الألمانية في كازاخستان بنسبة ٦٤٪ في عام ٢٠٢٣ مقارنةً بعام ٢٠٢٢.
المستشار الألماني أولاف شولتز ورؤساء دول آسيا الوسطى في أستانا، كازاخستان في 17 سبتمبر/أيلول. (المصدر: EFE) |
من المهام بالغة الأهمية للسيد أولاف شولتز القضايا الجيوسياسية. يرغب المستشار الألماني في الاستماع إلى قادة شركائه في آسيا الوسطى بشأن التطورات في روسيا ومسألة الامتثال للعقوبات الغربية المفروضة عليها في آسيا الوسطى. إلا أن الرئيس الكازاخستاني توكاييف سخر من السيد أولاف شولتز عندما أكد أن روسيا "لا تُقهر" عسكريًا. سيؤدي تصعيد الحرب في أوكرانيا إلى عواقب وخيمة على البشرية جمعاء، وفي مقدمتها جميع الدول المتورطة مباشرةً في الصراع الروسي الأوكراني.
ومن المؤكد أن تصريحات الزعيم الكازاخستاني ستدفع المستشارة الألمانية إلى إعادة النظر في سياستها المتمثلة في تصعيد "المواجهة مع روسيا" في أوكرانيا، في مواجهة المعارضة الداخلية المتزايدة لدعم الحكومة الألمانية لكييف.
ومع ذلك، لم يغادر المستشار الألماني أستانا خالي الوفاض. فقد ساهمت رحلته إلى آسيا الوسطى في تعزيز علاقات ألمانيا مع الدولتين الرائدتين في المنطقة، كازاخستان وأوزبكستان.
مع أوزبكستان، توصلت ألمانيا إلى اتفاقية هجرة مع طشقند، تهدف إلى استقطاب عمالة ماهرة في ألمانيا. وفي كازاخستان، اتفق الجانبان على مواصلة التعاون في 66 مشروعًا استثماريًا باستثمارات إجمالية قدرها 55 مليار دولار أمريكي، لا سيما في مجالات الطاقة والبناء وإنتاج الأكسجين وبناء المطارات واستخراج ملح البوتاسيوم وحمض البوريك.
تعهدت دول آسيا الوسطى وألمانيا بتعزيز وترويج الشراكة الاستراتيجية في الاقتصاد والتجارة والطاقة واستغلال المعادن ومكافحة تغير المناخ ومكافحة الهجرة غير الشرعية والإرهاب والتطرف.
[إعلان 2]
المصدر: https://baoquocte.vn/luc-hut-mang-ten-trung-a-286803.html
تعليق (0)