إن خسارة مباراتين نصف نهائي ومباراة نهائية واحدة هي نتيجة لا يرغب بها أحد، ولكن هذه الإخفاقات هي التي ساعدت لوكا مودريتش على أن يصبح أكثر جمالاً في عيون عشاق كرة القدم حول العالم .
فشل مودريتش مجددًا في النهائي مع كرواتيا. الصورة: talkSPORT
"المقاتل الحقيقي" في كرة القدم.
في الأسبوع الذي يتحدث فيه الناس عن المدرب أنجي بوستاكوجلو، المدرب الأسترالي الذي سينتقل إلى توتنهام هذا الموسم، سنتحدث عن مفهوم يحبه الأستراليون، وخاصة الأستراليون في أوائل القرن العشرين، لدرجة أنه أصبح سمة ثقافية لا تنفصل عن "بلد الكنغر"، وهي قصة "المقاتل"، أو "المحاربين" الحقيقيين في الأراضي العشبية الداخلية، والتي تسمى "outback" في اللغة الإنجليزية الأسترالية.
إن "المقاتلين" الأستراليين ليسوا المحاربين الأقوياء ذوي السيوف اللامعة والدروع الرومانية أو العصور الوسطى الذين نراهم غالبًا في الأفلام، كما أن "المقاتلين" الأستراليين ليسوا رعاة البقر في الغرب المتوحش الذين "يسحبون بنادقهم أسرع من ظلالهم" مثل لاكي لوك في سلسلة القصص المصورة التي تحمل نفس الاسم للفنان رينيه جوسيني.
لا، "المقاتل" كان مجرد أناس عاديين مثلنا. اضطر الناس العاديون إلى ترك عائلاتهم والتوجه إلى المدن لكسب عيشهم خلال الفترة التي كانت فيها أستراليا الشابة لا تزال تواجه صعوبات جمة بسبب المشاكل الاقتصادية أو الحكم القاسي نوعًا ما للحكومة الاستعمارية البريطانية.
يُحبّ الأستراليون هذا النوع من "المُقاتلين"، وخاصةً المُقاتل المُهزوم الذي بذل قصارى جهده في سبيل قضيته النبيلة، وحاول الفرار من "الشر" والهرب من القانون، ثم انتهى به الأمر إلى موتٍ بطولي. ومن أبرز الأمثلة على هذا النوع من "المُقاتلين" عبر التاريخ الأسترالي نيد كيلي، زعيم عصابة نيد كيلي الشهيرة، الذي لا يزال درعه المصنوع من شفرة المحراث معروضًا في مكتبة ولاية فيكتوريا، والرجل الذي ظهر في أغنية "فالزينغ ماتيلدا" - النشيد الوطني غير الرسمي لأستراليا إلى جانب "أدفانس أستراليا الجميلة" و"حفظ الله الملك".
درع نيد كيلي، أشهر "المقاتلين" في التراث الشعبي الأسترالي. المصدر: فليكر.
صباح الاثنين، تُوِّجت إسبانيا بدوري الأمم الأوروبية بعد فوزها على كرواتيا بركلات الترجيح في مباراة استمرت 120 دقيقة. وبالطبع، سيُثار الحديث كثيرًا عن هذا اللقب الذي يُطلق عليه "لا روخا"، فهو أول لقب وطني يُحرزه هذا المنتخب بعد 11 عامًا من الانتظار منذ تتويجه بلقب يورو 2012 في أوكرانيا. ورغم أن فوزهم لم يكن بنفس سهولة فوز الجيل الذهبي من "لا روخا" الذي ضم إنييستا وتشافي وجوردي ألبا وإيكر كاسياس في أوكرانيا، إلا أنه يُعتبر فوزًا مهمًا لإسبانيا، بل ويُعتبر بدايةً لعودة البلد الذي هيمن يومًا على عالم كرة القدم.
لكن في ذلك اليوم السعيد من "لا روخا"، لم يسع الناس إلا أن يشعروا بالحزن على شخص، أو بالأحرى جيل من اللاعبين الرائعين، وإن كانوا في غاية الحزن، جيل وصل إلى نهائيين ونصف نهائي أربع مرات مع المنتخب الوطني، جيل قدّم العديد من اللاعبين الموهوبين لأوروبا، جيلٌ ولّد شائعة: "بوجودهم في الفريق، الفوز مضمون". نعم، هذا هو الجيل الذهبي لكرة القدم الكرواتية، وصيف دوري الأمم الأوروبية لهذا العام.
يبلغ عدد سكان كرواتيا 164,362 نسمة، منهم 43,302 مولودون في وطنهم الأم، ويمكن اعتبار الشعب الكرواتي جزءًا من المسار التاريخي لـ"دولة الكنغر". ولعل هذا ما يفسر تشابه اللاعبين الكرواتيين مع "المقاتل" الحقيقي في أستراليا: أناس عاديون، حتى أولئك الذين لم يولدوا وينشؤوا في كرواتيا، بل في بلدان أجنبية بسبب تأثير "الحرب الأهلية اليوغوسلافية" قبل أكثر من 30 عامًا، مثل إيفان راكيتيتش، وجوزيب ستانيشيتش، وماريو باشاليتش - أناس نزلوا إلى أرض الملعب وقاتلوا بكل ما أوتوا من قوة لمواجهة مصير فريق وُلد في رحم قسوة عصر مثل كرواتيا.
كفريقٍ استثنائيٍّ وُلد في ظروفٍ استثنائية، تضمّ كرواتيا أشخاصًا استثنائيين مثل إيفان راكيتيتش، الذي لم يُولد في كرواتيا، لكنه قرّر التمسك بقميص منتخب "وطنه". المصدر: جول.
من بين أبناء تلك الجماعة "المولودة من رحم المعاناة"، ربما يكون لوكا مودريتش خير ممثل. وُلد من رحم المعاناة، وُلد بين قنابل الحرب، وعاش طفولةً لم تكن هادئة. حتى عندما كبر وأصبح لاعبًا، ظل القدر يغري لاعب الوسط الموهوب هذا. تمتع بمسيرة مهنية مستقرة في توتنهام، لكنه لم يُحرز أي لقب مع الفريق الأبيض في لندن، وهو فريق يُمكن اعتباره أيضًا جماعة "مقاتلة" مثل فريق مسقط رأسه.
عندما انتقل إلى ريال مدريد، خدعه القدر مرة أخرى، هذه المرة على الخط الفاصل بين خائن للأمة وخائن لوليّ أمره. كان عليه أن يختار بين الصمت على تجاوزات الرئيس زدرافكو ماميتش، سبب "تمرد" المشجعين الكرواتيين في يورو 2016، أو التحدث علانيةً لإدانة تصرفات الرئيس السابق الفاضح الذي ساعده كثيرًا في الماضي. في النهاية، كما نعلم، اختار خائن الأمة على وليّ أمره.
هكذا هي حياة لوكا مودريتش، يملك كل شيء، فاز بألقاب كبيرة وصغيرة مع ريال مدريد على مر السنين، ولعب مع أفضل لاعبي العالم، ولكن ما فائدة كل هذا إن لم يستطع تحقيق ما يحلم به الجميع، وهو جلب المجد لفريق مدينته؟ أنخيل دي ماريا، زميله السابق في ريال مدريد، حقق ذلك في كأس العالم 2022، ولكن لتحقيق ذلك، كان على دي ماريا أن يفعل شيئًا لم يرغب به من كانوا يرتدون قميص ريال مدريد، وهو هزيمة صانع ألعاب سانتياغو برنابيو الأول في نصف النهائي.
صورة رائعة من كأس العالم ٢٠٢٢: دي ماريا يواسي زميله السابق في يوم الأرجنتين السعيد. المصدر: صحيفة ميرور.
حقق الجيل الحالي من اللاعبين الإسبان أول لقب لهم على مستوى المنتخب الوطني، وهو ما يُمثل بدايةً قويةً لانطلاقةٍ جديدةٍ لـ"الفاتحين" من جيل "الجيل زد"، ممثلين ببيدري، وغافي، ورودري، وفران غارسيا. ولكن من بينهم، وخاصةً اللاعبون الذين نشأوا وتدربوا بقميص ريال مدريد مثل فران غارسيا، سيشعرون ببعض الحزن لعلمهم أنهم، لتحقيق أول لقبٍ لكرة القدم الإسبانية بعد 11 عامًا من الانتظار، اضطروا، مثل دي ماريا، إلى هزيمة أحد أعظم لاعبي كرة القدم المعاصرة، محارب، أو بالأحرى "مجموعة من المحاربين"، الذين، في كل مرة يرتدون فيها زيّهم العسكري، سيقاتلون حتى آخر نفسٍ من أجل الدرع المربّعة المطبوعة على صدورهم.
لاختتام قصة هؤلاء "المقاتلين" بقمصانهم المربعة، نقرأ مجددًا سطور إيفان راكيتيتش، الذي نشر قبل خمس سنوات مقالًا بعنوان "أفضل القمصان في العالم" في موقع "بلايرز تريبيون"، وهو صفحة "اعترافات" للرياضيين المحترفين. وفيه، كشف راكيتيتش عن قراره بالانضمام إلى المنتخب الكرواتي، وهو قرار قال إنه "لم يكن للقتال ضد سويسرا، بل من أجل كرواتيا".
حتى عندما جلستُ أمام سلافن واستمعتُ إلى حديثه، كنتُ أعلم أنني لا أستطيع اتخاذ قرارٍ فوري. لقد منحتني سويسرا الكثير، لذا كان عليّ التفكير مليًا. كان موسمي مع بازل قد انتهى للتو، وكنتُ قد عدتُ إلى الوطن قبل أيام قليلة من انتقالي إلى ألمانيا للعب مع شالكه 04. كان اختيار الفريق الذي سألعب له عبئًا ثقيلًا على كاهلي لفترة طويلة. كان عليّ اتخاذ قرار قبل مغادرتي إلى ألمانيا. أردتُ أن أبدأ بعقلٍ صافٍ وألا يشتت انتباهي أي شيء.
أجلس في غرفتي، وما زلت أشعر بالجمود. أسير جيئةً وذهاباً في غرفتي، أفكر في من أوصلوني إلى هذا اليوم.
ثم نظرت إلى قلبي، نظرت إلى ما كان "يخبرني" به.
التقطت سماعة الهاتف وبدأت في الاتصال.
كانت المكالمة الأولى مع المدرب السويسري. لقد كنتُ جزءًا من المنتخب السويسري طوال مسيرتي، لذا كان الاتصال به هو القرار الصائب. أردتُ أن أشرح له سبب لعبي مع كرواتيا. أخبرته أن القرار ليس ضد سويسرا، بل لصالح كرواتيا. ثم اتصلتُ بسلافن.
"سألعب من أجلك. سأكون جزءًا من هذا الفريق."
قال لي سلافن: "سيفخر الكرواتيون بك بالتأكيد. لا تفكر في أي شيء آخر، فقط استمتع بكرة القدم."
إيفان راكيتيتش بجانب والده، لوكا راكيتيتش. المصدر: Vecernji.hr.
لم أتصل بأحد لفترة طويلة، لكنني تمكنت من سماع والدي خارج الباب، وسمعت كل خطوة يخطوها.
عندما فتحتُ الباب، توقف والدي ونظر إليّ. لم أخبره بقراري بعد، لكنه أخبرني أنه سيدعمني مهما كان الفريق الذي أختاره. كانت هذه لحظة مهمة جدًا لكلينا.
ومع ذلك، قررت أن "أضايق" والدي.
"سألعب لصالح سويسرا بعد ذلك" قلت لأبي.
"أوه، حقًا؟" تردد أبي. "حسنًا."
"لا، لا،" قلتُ ضاحكًا. "أنا ألعب لكرواتيا يا أبي."
بدأت الدموع تتساقط من عينيه، وبدأ والدي بالبكاء.
أفكر في والدي، أفكر في تلك اللحظة كثيرًا كلما دخلت الملعب بقميص كرواتيا. أعلم أنه كان يتمنى لو كان مكاني، أن يشعر بمركزي. أعلم أن الكثير من الكرواتيين يتمنون أن يكونوا مثلي، أن يحملوا شعار وطنهم ويدافعوا عن شرفه... لا أجد كلمات تصف هذا الشعور حقًا.
كيه دي إن إكس
[إعلان 2]
مصدر
تعليق (0)